كتاب وآراء

ارشيدة العالمة” من حاضرة إلى دوار

أحيانا .. يبلغ فينا الضجر حدا نفقد معه الرغبة في الكلام، بل وفي كل شيء واليوم أكثر، ولكن حين نرى القرية وقد تعبت من حمل أوجاعها، وضاقت من طول حرمانها ومن سخافات بعض ساكنيها ومنتخبيها، نصرخ عاليا في وجه كل من تسلم مواقع المسؤولية فيها. وكل من رفعوا الشعارات والتصريحات والدعايات أيام “الجدبة الإنتخابية”، وأوهمونا بأننا قادمون على مستقبل واعد وحياة أفضل لنا ولأجيالنا القادمة. نصرخ في وجه كل من “أكل الغلة وسب الملة” وباع واشترى وتاجر بشعارات الشفافية والنزاهة والعمل لمصلحة الجماعة.

كيف السبيل اليوم لإنقاذ قرية طالها النسيان، وتحولت من حاضرة إلى دوار؟ باتت من كثرة الألام ركاما لا حياة فيها. فقرية ارشيدة تعاني العزلة القاتلة التي فرضتها الطبيعة على قاطنيها من جهة والإقصاء والتهميش الممنهج اللذين فرضتها الجهة المسؤولة على شأنها المحلي من جهة أخرى، مما جعلها تعاني تأخرا في شتى المجالات التنموية، مظاهر التهميش والحرمان التي تتخبط فيها البلدة المكلومة عكرت صفوة حياة الساكنة، وحولتها إلى شبه مستحيلة إذ لم تتمكن من الظفر بحياة كريمة وحقها في التنمية. ورغم ذلك يبقى الأمل عالقا في نفوس السكان في تنمية قريتهم وإخراجها من الفقر والحرمان، فهل سيتتحقق حلمهم في ظل وجود مجموعة من الثعابين والسحالي التي تبدل جلدتها بين فترة وحين؟

فبمجرد أن تطأ قدماك جماعة لمريجة «قرية ارشيدة» تستطيع قراءة أول فصول المعاناة، وحالة اليأس والإحباط التي تعيشها الساكنة، بسبب الظروف الإجتماعية القاسية والمزرية التي مست جميع مناحي الحياة فضلا عن بطالة الشباب، حياة البؤس والشقاء التي يكابد معاناتها المواطنون، والتي تجعلهم عرضة لجميع أشكال الإستغلال ينزفون ويصارعون شبح التهميش الإهمال فمتى يأتي الخلاص؟

كل طرق الإقصاء و التهميش المعلن و الخفي تؤدي إلى ارشيدة (نواحي إقليم جرسيف)، هذه القرية التي من فرط اللاتغيير واللاإقلاع المضروب عليها، تحصي مآثرها كما تحصي الخيبات التي عمرت عجافا لسنوات عديدة، و هي الطفلة التي كانت فيما مضى، تنسج للتاريخ عباءات وابتسامات للعابرين والمولعين بالعلم والمعرفة المشرقة للذاكرة الحية، ارشيدة وإن إختلفت الروايات كانت قبلة الحالمين بنقش الإسم ووشم الخطوة وهي تمشي مزهوة نحو ذلك الغد الذي سيذكره التاريخ و لن ينساه رغم محاولة بعض المتكالبين عليها، كانت البدء والمنطلق لحضارة يفتخر المغرب الشرقي كله لكونه ينتمي إليها و تنتمي إليه، والعاشقون لها الجدد ها هنا، يكتبون سيرة القرية التي كانت فيما مضى قبلة لأهل العلم والعلوم، وأصبحت اليوم رصيف العابرين نحو التهميش والإذلال في كل تجلياته، سؤال قد يطرح ماذا صنعت ارشيدة لكي تساق و سكانها الطيبون نحو الموت السريري؟ فلا التعليم تعليما يفتقد لأدنى الشروط التربوية والتعليمية، مدارس مهترئة، نخرتها السنين و أكلت من حائط مبكى الأبجديات، مؤسسات تعيش دمار سياسات القطاع.وإعدادية وثانوية يتيمة تبعد عن القرية والدواوير بحوالي 20 كلم، إنه رسم سريالي، تجريدي لا يمكن لأي باحث أن يفك طلاسيمه المعقدة.

الجبال هنا صامدة صمود ساكنتها، غابات و شعاب، وكل المؤهلات الطبيعية الفاتنة تعطي الإنطباع الجميل والحالم، أن المنطقة مؤهلة لكي تلعب دورا مهما وفاعلا في النسيج السياحي. الغابات هنا تتوفر على ثروة نباتية وحيوانية مهمة جدا، لكن غياب سياسة ترشيد حقيقية للقطاع الغابوي وكذلك تقاعس المسؤولين في أداء واجبهم المهني، أفرز لنا واقعا غابويا يدمي الفؤاد، نهب شبه يومي للغابة وقتل ممنهج لكل معالمها و ملامحها، قطع كل مختلف الأشجار بطريقة وحشية واستغلال جائر وعشوائي لإكليل الجبل وغياب إن لم أقل تواطؤ المسؤولين عن حماية الغابة من هذا الدمار الكاسح الذي قد يؤدي بنا إلى كارثة بيئية. ويشار أنه رغم التهديدات والإتهامات والمضايقات التي تعرضنا لها خلال تناولنا لموضوع عشبة أزير، والذي سبق له أن سال مداد حبرنا عبر جرائد محلية ووطنية خضنا من خلاله معركة شرسة مع الإدارة الوصية، وبعض المهووسيين بتخريب وتدمير واستغلال إكليل الجبل، تكلل بإعفاء المدير الإقليمي للمياه والغابات ومحاربة التصحر بجرسيف، ومنح الغابة الراحة البيولوجية.

قلت و أعيد، أن كل الطرق تؤدي إلى معاناة هؤلاء الشرفاء الطيبين في صمود يبتسمون للجرح، يضمدوا جراح بعضهم البعض، قد ينسل المرض إلى أحدهم لدغة عقرب، يكتفون بما تعلموا من وسائل الصمود أمام المرض والنكبات الصحية، فالقطاع اللاصحي مريض في كل ربوع هذا الوطن العزيز، لكنه هنا على فراش الموت يكتب وصيته الأخيرة : ” تدبروا أمركم أيها الفقراء “، مستوصف واحد يتيم يأتي إليه المرضى من كل فج سحيق، ممرض(ة) واحد(ة) ولا أثر لوجود طبيب(ة) و مولدة ، لا شروط صحية و نظافة المكان أعلنت الحياد ، كل الأخطاء الطبية واردة هنا، فمخاض الولادة يطلب التأجيل، سيارة إسعاف واحدة ووحيدة مهترئة تصهر على تسييرها جمعية محلية مركونة تتوسل من يسعفها من هذا المآل.

كفاكم عبثا بهؤلاء المستضعفين، الذين شاءت أقدارهم أن يمشوا في الظل، لا يلتمسون سوى جرعة كرامة، فالواقع المزري لكل هذه القطاعات الحيوية ومشاهدها المرضية تعطي الدليل أن الصبر مع الصمت هو مسار حياة فرض على كل المستضعفين هنا، وربما غدا أو بعد غد، قد يتحول بحد سلطة البحث عن العيش الكريم إلى أفواه تجيد الدفاع على منظومة الإنسان في كل تجلياتها و بكل الطرق .

We Love Cricket

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى