الصرف الصحي يقتل ولا يبالي …

بقلم: عثمان عوي
لطالما تناولت هذا الموضوع بإلحاح، ورفعت الصوت مراراً في مقالات وتحقيقات سابقة، غير مرة كنت ولا زلت ادق ناقوس الخطر ونبّهت المسؤولين وصنّاع القرار إلى الكارثة الصحية التي تُطبخ على نار صامتة في عمق مجتمعاتنا. لم أكن أهوّل الأمور حين تحدثت عن تسرب المياه العادمة إلى الفرشة المائية، ولا كنت أفتعل الإثارة حين كتبتُ عن التلوث الصامت الذي يخلط الطاهر بالنجس، يخلط الحياة بالموت، يخلط العذب بالحمضيات في غفلة أو تجاهل مقصود ممن يفترض بهم حماية أرواحنا.
قلتها مراراً وسأظل أقولها: نحن نموت ببطء…
نحن نؤسس بالسياسات الغائبة أو المغيبة، لأزمة صحية ستنفجر لا محالة، وسندفع ثمنها باهظاً، أمراض خبيثة تفتك بأجساد الضعفاء، ونظام صحي عاجز حتى عن مجاراة الأوبئة الموسمية، فكيف له أن يواجه القادم الأسوأ؟ أمراض تنخر الأجساد في صمت ونظام صحي هش، لكن كل صرخة أطلقتها، وكل سطر كتبته، كان يُقابل بالتجاهل أو التبرير أو الابتسامة الباردة!
واليوم، لم نعد أمام موت بطيء فقط. ها هو الصرف الصحي يحصد الأرواح بشكل مباشر، بلا رحمة، بلا إحساس، بلا تدخل. فاجعة تلمي، ذلك الموت الغادر، ذلك اليوم المشؤوم لم يكن سوى حلقة في سلسلة من الإهمال المزمن، واللا مبالاة التي تجاوزت كل حدود المنطق والإنسانية. ومع ذلك لا نقول الا ما يرضي الله…
كنتُ أحلم، مثل كثيرين، بمشاريع تُعيد تدوير مياه الصرف الصحي، تحوّلها إلى مصدر حياة بدل أن تظل أداة موت. كنتُ أطمح إلى رؤية أحزمة خضراء تمتد من أعالي الواحات إلى سافلتها، تخلق ميكرومناخات تخفف من أثر التغير المناخي، وتُعيد التوازن البيئي للمنطقة. لكن الحلم تبخر، وتلاشت الآمال أمام مشاريع مرتجلة، متعثرة، أو لم تولد أصلاً.
وها نحن اليوم، أمام حفر سوداء مفتوحة، كأنها أفواه جائعة تبتلع الحياة، تجرح الكرامة، وتقطع الأكباد. هكذا يترك الصرف الصحي يقتل ببطء، ويقتل بسرعة، ونحن لا نزال نبحث عن الأعذار؟
لا أكتب لأُزايد، ولا لأصنع منبرًا لليأس، بل أكتب لأنني شاهد على موت معلن، وجسد وروح يحس بثقل الفاجعة وموطنها في القلوب .
ما نعيشه اليوم يسائلنا عن أحلام الطفل ومشاريع الأب وانتظارات الأسر…
ما نعيشه اليوم نتيجة واضحة لسياساتنا التنموية المبتورة الأطراف…
فأي تنمية نريد؟ وأي مستقبل نصنع؟
ومتى سنعلم علم اليقين أن الحقوق والواجبات تعرف التاريخ ولا تعرف الجغرافيا؟
إنه الصرف الصحي يا سادة… يقتل، ولا يبالي، فماذا ننتظر؟
لا أريد أن أحمل طرفا محددا مسؤولية ما وقع ولا أريد أن أبريء جهة ما ، فالمسؤولية مشتركة وتختلف دراجاتها من بين الأطراف ، فماذا عسانا أن نقول… فإلى الله المشتكى…