كتاب وآراء

المربون أمام أندادهم الجدد مصطفى النفيسي

المظرسة تتراجع إلى الخلف
ذهبت المدرسة وجاء الأنترنت. أصبحت المدرسة تتراجع إلى الخلف يوما بعد يوم، إلى أن أصبحت مجرد نقطة صغيرة معلقة في الفضاء كنجمة تظهر وتختفي. لا أحد ينكر أن المدرسة في شكلها التقليدي، أي كحجرات دراسية تشرف عليها إدارة تربوية، ويقدم داخلها مدرسون دروسهم، ورسالتهم التاريخية المتعارف عليها من تثقيف وتعليم، أو تضطلع بما أصبح يعرف الآن بالتعليم الحضوري، ستبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. ولكنها تآكلت من الداخل ومن الخارج. تعرضت لكل عوامل الحث والتعرية بالمعنى الجيولوجي. لم يعد المدرس مالكا وحيدا للمعرفة. وهي الجملة التي يتم ترديدها باستمرار خلال حصص التكوين التربوي. أصبح المدرس كتمثال يوشك على السقوط. أصبح على الأصح كراع أكلت الذئاب كل شياهه، وأصبح وحيدا أمام الرياح. فبدل أن يهش على الشويهات أصبح يهش على أوهامه وأضغاث أحلامه. إنه التمثال الذي أصبح مربكا جدا بعد أن هزمته الحياة. بقي مرابطا في الهامش كحارس يحرس حصنا قديما لا يحتوي على أي شيء. إنه الحصن الذي كان سابقا يحتوي على كل شيء من قيم أخلاقية ومعرفية وسلوكات نموذجية ورؤى إيجابية عن الحياة والمستقبل. لقد خاب أمل المعلم الذي أخذ بيد الجميع، ولم يأخذ بيده أحد. إنه النوتي الذي كان يجب عليه أن يقود باخرته بشجاعة عالية كي يوصل الجميع إلى بر الأمان. إنه الراعي الذي كان يحمل في يده ألف منظار كي يكشف للجميع معالم الطرق القادمة، حتى لا تتعثر أقدامهم وحتى لا تتحطم آمالهم. وهكذا كانت المدرسة بمثابة الشجرة التي يتسع ظلها للجميع حينما تشتد وطأة الشمس في الهجيرة.
الأنترنت يحتل المشهد بأكمله
في البداية جاء الأنترنت كناقوس أعلن اقتراب أفول نجم المدرسة. جاء كمعلم جديد يفد من بعيد، ليتكاثر حوله القيل والقال. فبكبسة زر تجد العالم يأتي إليك صاغرا. كل ما حلمت بأن تراه وأن لا تراه يوجد أمامك الآن من خلال ما يسميه المفكر الفرنسي ميشيل سير بـ”الأصبع الصغيرة”. وهو عنوان كتاب له بهذا الاسم. ويقصد بالأصبع الصغيرة الأصبع التي تضغط على رموز وحروف الكيبورد بالحواسيب (لوحة المفاتيح). فالآن كل الأسرار قد أفشيت، ونفض الجميع أياديه منها، وذهب للبحث عن أسرار جديدة. ففي قلب كل حاسوب توجد مكتبة، ومحركات بحث تلهث ككلاب سلوقية تبحث عن طرائد جديدة. وأمام الشاشات الصغيرة تجد صيادين متحفزين وجشعين يجلسون جلسة المتربصين والوشاة. لقد اصطففنا جميعا أمام هاته الشاشات كوشاة جدد. لذلك فهاته الشاشات الناصعة أصبحت تعوض السماء التي كانت مصدر إلهام للشعراء والفلاسفة القدماء. فكل ما يوجد خارج تلك الشاشة أصبح مبتذلا وقديما وغير مقنع بتاتا، ولايثير ذائقة أحد، إن لم أقل شهية أحد. والبون واسع طبعا بين الشهية والذائقة، إذ ما يبحث عنه الناس هو “الغرابة” بدل الاعتيادي و”الاستثناء” بدل القاعدة، و”اللامكان” أو اليوتوبيا بدل الواقع.
“ميسنجر” يهدم عرش الرحلات والأسفار التقليدية
حينما جاء “ميسنجر” أصبح السفر التقليدي مجرد حكاية قديمة تجدها في كتب الرحلات. فلا حاجة للسفر بعد الآن. لأنك تسافر إلى كل بقاع العالم دون أن تتحرك من مكانك. وهذا ما عبر عنه المشاكس بول فيريليو حينما قسم تاريخ البشرية إلى ثلاث حقب أساسية بناء على طبيعة السفر. فهذا الأخير تطور عبر التاريخ متخذا ثلاثة أشكال: الشكل الأول يتكون من ثلاث مراحل، والشكل الثاني يتكون من مرحلتين، أما الشكل الثالث فيتكون من مرحلة واحدة. كيف ذلك إذن؟
لقد كان السفر بداية يتكون من ثلاث مراحل هي: أ- الانطلاق – ب- الحركة والتنقل – ج – الوصول. بعد ذلك سيتم التخلي عن الحركة والتنقل ليصبح السفر قائما على الانطلاق والوصول. فالمسافر عبر الطائرة قد ينام عند الانطلاق ولا يستيقظ إلا عند الوصول، أي أنه لا يحس بالحركة، بل إنه لا يتنقل، ولا يتجشم متاعب السفر. أما المرحلة الثالثة ففيها تم اختزال السفر إلى مرحلة واحدة فقط هي الوصول، وذلك من خلال ما يعرف بتقنية البث الحي الذي يتم من خلال كاميرات منصوبة في كل بقاع العالم، بحيث تنقله إليك كما هو. وهذا ما يجسده “ميسنجر” حينما يمنحك التواصل بالصوت والصورة مع مخاطبك. من خلاله أصبح بإمكانك رؤية العالم وأنت تجلس في مكتبك داخل غرفتك الصغيرة. لذلك تم التخلي عن السفر بشكله التقليدي.
ويجب أن نتفق بداية أن السفر قديما كان يمنح فرصا أخرى للمعرفة والاستكشاف. فابن بطوطة مثلا الذي يعتبر قيدوما للرحالة أتحف الإنسانية بكتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، الذي يجمع أخبار ترحلاته. وحتى إذا افترضنا بأن ابن بطوطة لم يؤلف أي كتاب، فإن أفق معرفته قد اتسع، ورؤيته للحياة والوجود قد تغيرت برؤيته لأناس كثيرين، وبقع جغرافية مختلفة من الأرض. ورحلة أحمد ابن فضلان إلى شمال أوروبا ألهمت الروائي الأمريكي مايكل كرايتون كي يكتبه رائعته الشهيرة” أكلة الموتى”، والتي سمحت بمعرفة عادات أهل الشمال، والغوص في متخيلهم الثقافي خاصة خوفهم وتطيرهم من الرقم 13.
لكن “ميسنجر” جاء ليهزم كل الرحالة، مانحا لكل الكائنات الإنسانية إمكانية رؤية العالم عن قرب، دون الاضطرار للاستماع لدزينة من الجمل والعبارات التي تشرح طباع وأشكال الثقافات في بقعة جغرافية ما. وهذا يعني بشكل ما أنه معلم جديد.
“فيسبوك”: أصدقاء بالجملة. أصدقاء كأثاث البيت
لو عاد الفيلسوف أرسطو للحياة، فسيشفق لحال نفسه. فالمسكين تحدث كثيرا عن أهمية الصداقة والأصدقاء بعمق في كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس”. لقد اعتبر أن انتشار الصداقة داخل المجتمع سيقضي على الخصومات، ولذلك لن يحتاج الناس لعدالة القوانين، بما أن عدالة المحبة ستكون هي السائدة، خاصة أن القوانين لا تقضي على الخصومات، بل هي تؤججها أحيانا. فطيلة مراحل الحياة يحتاج الإنسان لأصدقاء. ففي الشباب يحتاج لهم للاسترشاد وللحصول على النصيحة، أي المعرفة بشكل ما. وفي الشيخوخة يحتاج إليهم كي يستعين بهم على الوهن والضعف.
لكن الآن انتشر مفهوم جديد للصداقة. فالأصدقاء الافتراضيون الأشباح تجد غالبهم بأسماء مستعارة ومفبركة تتوخى انتحال شخصيات علمية وأدبية. ولذلك بعد أن كان الإنسان يمتلك عشرة أصدقاء أو أقل، يستطيع من خلالهم الحصول على المعرفة والخبرة، من خلال استفسارهم عن السبل للخروج من مطبات الحياة، أصبح يدجج نفسه بآلاف الأصدقاء الذين لا يختلفون عن تماثيل في ساحة واسعة. والمضحك والمؤسف أيضا في كل هذا هو أن الصداقة انتشرت بشكل كبير وبالموازاة أيضا ارتفعت أعداد الخصومات. رغم ذلك فـ”فيسبوك” هو وسيلة جديدة لتحصيل المعرفة شئنا أم أبينا، والتي قد تتحول إلى أخبار غير صحيحة وإشاعات وأغاليط للاستبلاد والاستغفال لا أكثر ولا أقل.
اليوتيوب كمؤرخ ما بعد حداثي
لقد عوض “يوتيوب” كل المؤرخين. كما أنه تجاوز الدور التقليدي للمؤرخ. فبعد أن كان هذا الأخير يتتبع كل حركات وسكنات الأمراء القدماء، أصبح “يوتيوب” يتتبع حركات وسكنات كل كائن إنساني يدب فوق الأرض. وهذا ما سيجعل ابن خلدون – لو عاد طبعا – يراجع قناعاته حول التاريخ وطريقة كتابته، حينما اعتبر في كتابه الشهير “مقدمة ابن خلدون” أن التاريخ لا يجب أن يهتم بالغث والسمين من الأحداث، بل السمين منها فقط، إشارة للأحداث المهمة والرئيسية. كما اعتبر أن التاريخ يهتم بتاريخ الأقيال من الناس وليس الأغفال، أي رجالات العصر الأساسيين وليس حثالة القوم مثلما نجد في اليوتيوب. لذلك فالمعرفة التاريخية التي كانت تمنح إمكانية معرفة أحوال الناس لأخذ العبرة منهم من خلال قياس اللاحق على السابق من الأحداث، أصبح اليوتيوب يتيح معرفة سطحية وهشة عن أناس لا خبرة لهم في الحياة، ويسمح بتتبع التفاهات في كل بقاع الكون، مع استثناء بعض النماذج الجادة، وهي قليلة جدا. هذا يعني أن اليوتيوب أصبع معلما ومربيا جديدا لا يمكن الاستغناء عنه. وهو معلم ينضاف إلى المعلمين الآخرين الذين يصولون ويجولون الآن.
“أنستغرام”: الصورة قبل المفهوم
دائما كنت أتساءل عن الجدوى من “أنستغرام”. ما الجدوى من هذا الفيض العارم من الصور التي لا تحصى؟
كنت دوما أتذكر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وتمييزه بين المفهوم والصورة. طبعا دولوز كان يقصد خلخلة القالب التقليدي للمفهوم، لتصبح الصورة شكلا متقدما للمفهوم. وهو ما تم تناوله في كتب كثيرة اشتغلت على فكر هذا الفيلسوف. ولكن صعود الصورة بشكل كبير سطح هاته المقاربة التاريخية ومنحها وجها بشعا. وطبيعي جدا أن يكون هذا جزء من النقاشات التي تحاول أن تقترب من الأسباب التي تقف وراء تقدم بعض المجتمعات وتخلف مجتمعات أخرى. فالمجتمعات العالمثالثية تقبع في خانة عميقة من التخلف نتيجة اهتمامها بالصورة على حساب المفهوم. وهذا ما يظهر في الواقع. فالأفراد في المجتمعات العربية خاصة تغص أذهانهم بالصور بدل المفاهيم. والذي حدث تحديدا هو أن المفاهيم اختفت واختبأت في السراديب والمكتبات. أليس هذا هو الحال الآن؟
إن ثقافة الظهور والمظهر و”اللوك” و”السيلفي” جعلت المفاهيم تنكسر وتتهشم جنباتها. وهذا تعبير صارخ عن صعود نجم أشخاص تافهين، ليسوا في الختام سوى مجموعة من الصور، وأفول نجم أشخاص هم العلماء والباحثون بشكل عام والمعلمون بشكل خاص، الذين هم بمثابة حراس لغرف المفاهيم وكل الأشكال المعرفية التي تفيد الأفراد والمجتمع. فكل كائن إنساني يشتغل على مظهره قبل ذهنه. وكنتيجة لكل هذا نجد أن المجتمعات المتقدمة بنت المفاهيم والعقول، في حين أن المجتمعات المتخلفة تركت الباب مشرعا أمام المتزلفين والمرائين والمدلسين ومزوري السير الذاتية الذين يسعون إلى تحسين صورهم في كل المرايا، ما خفي منها وما ظهر. وهذا بنظري ما يتيحه “أنستغرام”. إنه يتيح تلميع صور بعض الأشخاص المزيفين وتضخيم مكانتهم داخل المجتمع على حساب أناس حقيقيين، جادين، وممتلئين يتم تقزيم أدوارهم ومكاناتهم. هذا يعني ببساطة أن “أنستغرام” هو معلم آخر لا يمارس عمله داخل المدرسة، بل إن عمله يتم خارجها وضدها.
“تويتر” كعالم أشباح يلاحقنا
إنه عالم أشباح بامتياز. فيه نتعلم كم نحن تافهون، وحسيرو النظر، بحيث نكاد لا نرى أي شيء. عالم يعيد من جديد مفهوم الغابة القديم، حيث القوي يأكل الضعيف. ففيه من الازدحام ما يجعلنا أمام غابة حقيقية، بدل هاته الغابات الاصطناعية المستنبتة على عجل، والتي تخلو من الحيوانات التي لم نعد نراها أبدا.
في عالم “تويتر” نتعلم الأحجام والمسافات والأوزان. فهناك كائنات كبيرة الأحجام، وأخرى متوسطة القد، وثالثة بدون أحجام، أو هي بأحجام صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة. تجد بداخله كائنات بأوزان ثقيلة، وثانية بأوزان متوسطة، وثالثة دون وزن تقريبا. فكل ما يوجد قريبا منك هو في الواقع بعيد بعد السماء عن الأرض، إلى الحد الذي يصبح فيه غير مرئي. ولذلك فكل كائن إنساني أصيب بالغرور يمكن لك أن ترسله إلى “تويتر” كي يتعلم الأحجام والأوزان والمسافات. هناك سيعرف حجمه ووزنه التافهين.
“واتساب” كمرآة معاصرة تظهر كل شيء
يعتبر “واتساب” بمثابة العداء الفائز في كل أصناف الماراثون عبر كل العصور. ففيه نتعلم الجري وراء السراب، دونما أن نشعر بشكل جازم بأننا لن نجد أمامنا أي شيء، لذلك سنكون قد تعلمنا الصبر. صحيح أن “واتساب” يتيح تبادل المعارف والوثائق بشكل فوري وآني، لكنه خلق ثقافة مريعة من الكسل. فداخل أرجائه تتعلم كيف تصبح كسولا أصيلا بما أنك لا تفعل أي شيء طيلة الوقت سوى انتظار إفادات الآخرين. كما أن “واتساب”، وبما أنه مجاني، فهو يقدم صورة أخرى عن الغلاء الفاحش. فلا شيء مجاني يا عزيزي. فـ”واتساب” يسرق منك وقتك بأرخص الأثمان. لا شيء تناله مقابل الوقت الذي أضعته بين جنباته. فالوقت هو أثمن شيء يمتلكه الإنسان، لأنه في الختام هو حياته نفسها وقد تحولت إلى أقساط صغيرة رخيصة الثمن. هاته الحياة التي يتم تبذيرها بشكل مستهتر وغير عقلاني.
وقد جعل “واتساب” الأسرة كمدرسة أولى تفقد دورها التقليدي والتاريخي المتمثل في مراقبة الأبناء. فالأب أصبح مجرد فزاعة تسكن البيت بدل الحقول، إذ لم يعد ذلك الرقيب المكلف بتقويم الألسن وتوضيب السلوكات. كما لم يعد ذلك البناء المسؤول عن بناء جدران البيت أو على الأقل ترميمها. فكل الجدران سقطت تماما. لقد هدمها “واتساب”. فلا جدران بعد الآن. ومقولة “البيوت أسرار” ستنقرض بشكل حتمي، سواء عاجلا أو آجلا. وهذا يذكرني بسؤال مدير مصنع الأجنة في رواية “عالم شجاع جدا” للروائي ألدوس هكسلي، وهي رواية مرعبة عن عالم سينتصر فيه العلم، وستختفي فيه المشاعر والعواطف، بحيث سيتم تفريخ الأجنة داخل القوارير في مصنع كبير مخصص لهذا الغرض: “تعلمون ماهي اللغة البولندية! أليس كذلك؟” ليجيبه الطلاب: “لغة ميتة”، ليسأل المدير مرة أخرى: “مثل الوالد؟”، أي أن المجتمعات المعاصرة ستفتقد فيها الأسر للوالد في كل تمثلاته. وهذا يعني أن الأجيال القادمة لن تعرف أي شيء عن وظيفة الأب التاريخية المتمثلة في التربية، مثلما سيجعلها تبحث عن معلمين جدد بعد أفول نجم المعلم التقليدي.
ولكن هل يتنازل المعلم الحقيقي عن أدوراه لهؤلاء الأنداد؟
وهل يمكن للإنسانية أن تتخلى عن المدرسة الاعتيادية؟
*كاتب وقاص
We Love Cricket

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى