
عثمان عوي
في عمق الجنوب الشرقي المغربي، وبالضبط في واحات دادس وامكون، ينبعث عبق الورد العطري Rosa Damascena، ليحمل معه ليس فقط رائحة زكية بل وعدا بنموذج تنموي بديل، يعيد الأمل لساكنة المنطقة، خاصة النساء القرويات اللواتي وجدن في الاقتصاد الاجتماعي التضامني متنفسا ومصدرا للعيش الكريم.
يُعتبر الورد العطري بالمنطقة من أجود الأنواع من حيث المستخلصات، وهو ما جعله محط اهتمام وطني ودولي، ودفع إلى التفكير في هيكلته وتنظيمه عبر تأسيس الفيدرالية البيمهنية للورد العطري، كإطار تنموي طموح، معترف به من قبل القطاعات الوزارية الوصية. كان الهدف في بداية المشروع واضحاً: تأطير الفلاحين، تجميع الجهود، تعزيز التحويل والتسويق، وتحقيق الإقلاع الاقتصادي للمنطقة.
ولقد عززت الفيدرالية هذا الطموح ببناية ضخمة ومجهزة بكل الوسائل الضرورية للعمل، وهي اليوم قائمة كصرح معماري أصيل يحتضن مختبرات، ومكاتب، وقاعات للعمل المشترك، مما يجعلها مؤهلة لتكون مشتلاً حقيقياً للأنشطة المدرة للدخل.
غير أن هذا الحلم التنموي بدأ في التراجع مؤخراً، حيث رصد الفاعلون المحليون جمودا واضحا في عمل الفيدرالية، حيث تقوقعت وتراجعت في علاقاتها مع الفلاحين والتعاونيات، ولم تفِ بوعودها التي قطعت خلال اللقاءات التشاورية السابقة في مناطق وجماعات متعددة تعتبر موطن الغرس والإنتاج، الأمر الذي طرح أكثر من علامة استفهام:
هل تمر الفيدرالية بمرحلة “كمون” تنظيمي من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي؟ أم أن الأمر يتعلق ببداية انهيار مشروع وُلد ليكون استثنائياً؟
تُطرح أيضاً تساؤلات حول ما إذا كانت الفيدرالية قد وقعت ضحية تجاذبات سياسية ضيقة، لا يخسر فيها سوى الفلاح الصغير، الذي وضع ثقته في هذا الإطار المهني ليكون عوناً له في تطوير إنتاجه وتسويقه.
أين التعاونيات الفلاحية من كل هذا؟ لماذا لم تنخرط وتشارك بفعالية لتكون سندا للفيدرالية ومرجعها الحقيقي للدفاع والترافع؟ ألم تعلم الفيدرالية أن قوتها تكمن في النسيج التعاوني وفي المنخرطين والمنخرطات؟ لماذا نخاف من التجميع والتشبيك والتنسيق؟ هل فقدنا الثقة في كل شيء وفي كل مبادر أم صدق فينا قول ” فرٍق تسد”؟
لماذا لم تُفعّل الوزارة الوصية دورها في دعم هذه التجربة الفريدة، التي من شأنها إرساء نموذج للاقتصاد التضامني المحلي ينهض بالمرأة القروية ويعزز الاستقرار المجالي؟
تبدو الفيدرالية اليوم وكأنها “بناية فارغة”، رغم كل التجهيزات والإمكانيات المتاحة، في وقت تنشط فيه مناطق أخرى من وطننا العزيز في تثمين منتوجاتها المجالية بكل فخر واحتراف. أما هنا، فكلما عُرضت منتوجاتنا في السوق، انخفض سعرها حتى قال أحد حكماء أيت حديدو ساخرًا:
“لا أرى حلاً لانخفاض أسعار السكر إلا أن ننتجه محلياً، فسينخفض ثمنه بمجرد طرحه في السوق!”، وقد صدق قوله لما نراه في حال الورد والتين والتفاح واللفت والبطاطيس المنتجة محليا رغم جودتها.
هي دعوة صادقة إذن، إلى المسؤولين عن الفيدرالية للعودة إلى العمل الجاد، والانفتاح من جديد على الفلاحين والتعاونيات، وتفعيل قنوات الحوار والتخطيط التشاركي، ووضع برامج واقعية تراعي خصوصية الفاعلين الصغار، مع إرساء آليات المراقبة والتقييم.
الاقتصاد الاجتماعي التضامني في واحتي دادس وامكون ليس رفاهية، بل هو ضرورة ملحة لخلق فرص شغل، خاصة لفائدة النساء، والقطع مع الهشاشة والفقر. والمسؤولية اليوم جماعية: بين الفيدرالية، التعاونيات، السلطات المحلية، الجماعات الترابية والوزارة الوصية… فإما أن نعيد إحياء الحلم الوردي ( وأحلام المنتوجات المجالية الأخرى )، أو ندفنه تحت رماد الإهمال والصراعات العقيمة.