
اليقين/ نجوى القاسمي
في وقت تتراكم فيه الجراح بصمت، وتكبر فيه المآسي في الظل، ما تزال الصحة النفسية تعامل كترف مؤجل، وكأن المعاناة الداخلية لا تُزهق أرواحا ولا تترك خلفها أسرا مكسورة.
بينما ينفلت الألم من بين أصابع المؤسسات، تستمر الفجوة القاتلة بين الواقع والاهتمام الرسمي، لتتحول معاناة المرضى النفسيين إلى عبء ثقيل يحمله المواطن وحده، وسط نقص فادح في المستشفيات والأطر الطبية، وورش مهمل لا يجد من يتبناه.
وما حدث قبل اسابيع في حي لاسيتي بالقنيطرة ليس مجرد حادث مأساوي، بل جرس إنذار يصرخ في وجه صمت طويل شاب مريض نفسيا يضع حدا لحياته بعد أيام من فقدان والده، ليذكر المجتمع بأن هذا النزيف الصامت لم يعد يحتمل مزيدا من التأجيل.
إنها قصة أخرى تُضاف إلى سجل طويل من الأرواح التي كان يمكن إنقاذها، لو فتح مستشفى الأمراض العقلية بالقنيطرة الذي بني منذ سنين دون أن يفتح في وجه المواطنين لعدم وجود الموارد البشرية الكافية لتشغيله
قالت الأخصائية النفسية ياسمين اليحياوي إن المغرب يشهد في السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في انتشار الاضطرابات النفسية، وفي مقدمتها اضطراب القلق العام واضطرابات المزاج وعلى رأسها الاكتئاب، مؤكدة أن هذا الوضع يعكس ضغطا اجتماعيا واقتصاديا متزايدا ونقصا واضحا في منظومة الرعاية النفسية.
وأوضحت اليحياوي في تصريح خصت به موقع اليقين أن اضطراب القلق العام أصبح واحدا من أكثر الاضطرابات انتشارا حيث يتميز بقلق مستمر ومفرط لا يتناسب مع المواقف التي يعيشها الشخص، وبسيطرة أفكار تلقائية ومثيرة للقلق عبارة عن سلسلة من توقعات سوداوية يصعب التحكم فيها.
وأشارت إلى أن هذه الأفكار تؤثر بشكل مباشر على النوم والتركيز، وقد تتطور إلى أعراض جسدية مثل ضيق التنفس، تسارع ضربات القلب، اضطرابات الجهاز الهضمي، والإرهاق العام، رغم أن أسبابها نفسية خالصة.
وأضافت أن خطورة هذا الاضطراب تكمن في تطوره الهادئ والمتدرج، حيث يميل العديد من الأشخاص إلى تفسيره على أنه طبع شخصي وليس اضطرابا يحتاج إلى علاج معرفي سلوكي أو متابعة متخصصة، مما يؤخر التشخيص ويزيد من حدة الأعراض.
وبخصوص اضطرابات المزاج، خاصة الاكتئاب، أكدت اليحياوي أنها أصبحت أكثر انتشارا سواء لدى الشباب أو كبار السن. وأوضحت أن هذه الاضطرابات لا تقتصر على الجانب العاطفي، بل تمس كذلك الوظائف المعرفية مثل الإدراك والذاكرة والانتباه، وهو ما يعرف بـالخلل المعرفي المرتبط وبينت أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يعتمدون على مخططات معرفية سوداوية تجاه الذات والعالم والمستقبل، مما يعمق مشاعر الحزن ويعيد إنتاجها بشكل دائري، ويؤدي إلى فقدان المتعة وصعوبة الخروج من هذه الدائرة.
وأشارت اليحياوي إلى أن هذه الاضطرابات تتفاقم في بيئات تتسم بالضغط الأسري والإحباط الاقتصادي والعزلة الاجتماعية، بينما يتردد الكثير من المصابين في طلب المساعدة، وهو ما يساهم في تأخر التشخيص وتحول الاضطراب من حالة قابلة للعلاج إلى معاناة مزمنة.
وأكدت أن ارتفاع معدل الإصابة بهذه الاضطرابات يكشف عن فجوة كبيرة بين حاجيات المرضى والموارد العلاجية المتوفرة، خاصة في ظل الخصاص المسجل على مستوى المستشفيات النفسية ونقص الأطر المختصة، مما يؤدي إلى تأخر العلاج وارتفاع خطورة تطور الحالة.
وأوضحت الأخصائية النفسية أن غياب المتابعة المنتظمة يدفع العديد من المرضى وأسرهم إلى اللجوء إلى حلول بديلة وغير سليمة مثل محاولة تدبير الحالة ذاتياً، إخفاء الأعراض، استعمال الأعشاب، الشعوذة، الرقية أو العزلة داخل المنزل، وهي حلول غير مبنية على أسس علمية وتساهم في تفاقم الاضطراب وتعميق معاناة الأسرة التي تعيش بدورها ضغطا وارتباكا وصراعات بسبب غياب التوجيه.
وختمت اليحياوي تصريحها بالتأكيد على أن تعزيز عدد المراكز المتخصصة، ودعم الموارد البشرية، وتوفير آليات للعلاج النفسي المعرفي السلوكي والدوائي لم يعد خيارا، بل ضرورة لضمان رعاية نفسية فعالة ومحترمة، وحماية المرضى وأسرهم من مضاعفات خطيرة يمكن تفاديها بالتشخيص المبكر والمتابعة المنتظمة.
We Love Cricket




