يتميز المشهد العمراني في بلادنا بخاصية التنوع، حيث تمتد عبر التراب الوطني المدن العتيقة-التاريخية و المدن الحديثة العهد والقرى بقصورها و قصباتها، كما تمتد العديد من المراكز و المداشر في المناطق الساحلية و الجبلية، إلى جانب انتشار ظاهرة أحياء الصفيح و السكن غير اللائق الذي ينشأ و يمتد في غالب الأحيان بضواحي المدن، و تختلف نشأة المدن و تطورها في بلادنا من منطقة لأخرى، بعضها عرف نموا سليما والآخر شابته عدة نقائص.
لذلك وضع المشرع وثائق قانونية للتعمير، ومخططات لتوجيه التهيئة العمرانية، تحدد قواعد البناء الخاصة بكل منطقة
وكما هو معلوم، فدراسة تصميم النمو تمر بعدة مراحل، كالتشخيص و التحليل الأولي و فتح المشاورات حول المشروع، و الإسترشاد بالآراء النيرة، ثم تأتي مرحلة البحث العلني ومداولات المجلس المحلي، و تدوين كل الملاحظات و تقديم الإقتراحات .. وفي حالة وجود صعوبات محتملة لتنفيذ أحكام تصميم النمو، تقوم الجماعة بمراسلة الجهات المختصة طبقا للقوانين الجاري بها العمل.
و من هنا تبرز أهمية إتخاد التدابير و الإجراءات الوقائية لضمان النمو السليم للمراكز، و ذلك من خلال تهيئ تصاميم النمو التي تراعي جمالية المشهد وخصوصيات كل منطقة.
مناسبة الحديث عن هذا الموضوع، هو جاهزية مشروع تصميم النمو لمركز ارشيدة الذي سيؤطر المشهد العمراني و مجال البناء لعشر سنوات المقبلة، و للمساهمة في مناقشة هذا الموضوع الحيوي، الذي سيحدد مصير و مستقبل القرية في مجال التعمير، سوف نقوم بطرح بعض التساؤلات:
ماهي خصوصيات قرية ارشيدة ؟ ماذا نريد أن نجعل منها ؟ ماذا عن تصاميم النمو القديمة؟ ماذا عن مشروع تهيئة ورد الإعتبار لقصبة ارشيدة؟ ماهي الأهداف المتوخاة من هذا التصميم الجديد ؟ ما نوع التنمية التي تنتظرها الساكنة؟ و أين يوجد المستقبل الإقتصادي للقرية؟ ما هو إختيار ساكنة ارشيدة : هل الحفاظ على تراثها المعماري و تثمينه كرافعة لتنمية المجال التراثي والسياحي المحلي؟ أو إبداله بمشهد حضاري جديد يتماشى مع متطلبات العصر؟ أم اختيار نموذج يعتمد على الوسطية في هندسته و يحافظ على المبادئ الأساسية للقرية، مع إدخال ما يتناسب مع متطلبات العصر ؟
فمن مميزات قرية ارشيدة أنها كانت حاضرة لها إشعاع ديني و ثقافي وعلمي وسياسي وإقتصادي ساعدها ذلك موقعها الإستراتيجي، لكن تحولت من ماضي متألق من حيث امتداداته الجغرافية و البيئية، و تراكماته التاريخية إلى حاضر يتقلص باستمرار، يتسم بالركود و الهامشية و إلى مجال ميت، و في غياب أي قاعدة إقتصادية،أو بنيات تحتية لتشجيع الإستثمار و استيعاب اليد العاملة، أصبحت المنطقة تعرف نزيفا ديمغرافيا بسبب الهجرة الخارجية و الداخلية، لم تشهد له مثيلا، و كانت لهذه التحولات آثار سلبية، و انعكاسات وخيمة على التراث المعماري، خاصة النسيج القديم، وتحولت بعض المنازل إلى خرائب و أطلال، و تراجعت القيمة الفعلية للحمولة التراثية و الثقافية، و بدأ الإسمنت المسلح يزحف على البنايات القديمة، و يغير ملامح العمران و الطابع الأصيل للقرية مما جعل عدة معالم تاريخية تصبح في خبر كان ؟….
وقبل المرور إلى إبداء الملاحظات و الإقتراحات سوف نقوم بقراءة أولية لتصميم النمو الجديد:
فمن خلال التأمل لما جاء به، نلاحظ أنه إستعمل مسطرة الصيغة القطعية من حيث الإجراء، و تعامل مع المجال و كأنه نطاق جامد.
كما تعمد وضع التصميم باللونين الأبيض والأسود مما جعل مهمة فهم مفتاحه مستحيلة على عموم المواطنين والمواطنات، ومما صعب ذلك اقتصاره على اللغة الفرنسية أيضا.
استنادا على هذه المعطيات، و ما تعرفه البنية العقارية بالقرية من تعقيدات سواء في النسيج القديم، أو على مستوى طبيعة ملكية الأراضي، بسبب مشاكل الإرث وصعوبة العيش، و ضعف القدرة الشرائية للمواطن وانتشار مظاهر الفقر …وحتى لا تتحول القرية إلى مزار، و يحكم عليها بالجمود و الركود أكثر مما هي عليه، فالواقع يفرض على الجهات المسؤولة إعادة النظر في تصميم النمو الجديد و في نطاقه الجغرافي، و ذلك عن طريق البحث عن مخرجات توفيقية تمكن المواطنين من الحفاظ على التراث العمراني للقرية، و تفسح المجال لممارسة بعض الأنشطة الإقتصادية والإجتماعية، ولتحقيق هذه الأهداف نقترح :
تعديل الشرط المتعلق بطبيعة المواد التي يجب إعتمادها في البناء مع تقليص المساحة الدنيا إلى 80 متر مربع عوض 100 متر مربع، في المنطقة ذات التنطيق سكن تقليدي للحماية (HP) مع الحفاظ على الطابع التقليدي بالواجهات السكنية مع السماح باستعمال الصلب بالداخل، مع الإحتفاظ على شكل الأزقة و الممرات العمومية، والإحتفاظ بالمظهر الخارجي.
ختاما أود أن أشير إلى أننا أمام تصميم نمو جديد سيصعب على المواطن الإمتثال له، لأنه جاف و لم يراع الخصوصيات، و لا الظروف الإقتصادية والمادية لشريحة اجتماعية عريضة، و لن يؤدي الأهداف المنتظرة منه، و إذا ما بقي على ما هو عليه، فلاشك أنه ستترتب عنه مخالفات و عقوبات زجرية، و مشاكل بين المواطن و الإدارة، و إذا كنا نريد من هذا المواطن احترام قواعد التعمير و الحفاظ على القرية و التراث، فالإنسان هو جوهر هذا التراث و محوره، و العمران هو انتاجه البارز الذي يمثل الذاكرة الظاهرة للأحداث التاريخية، كما فعل الآباء و الأجداد، الذين عرفوا كيف يدفعون المضار بالحماية، و يجلبون المنافع، و تسهيل المرافق حسب تعبير ابن خلدون ، فالى جانب الممنوعات التي جاء بها التصميم، فما هي الاجراءات المسموح بها ؟؟ كمقابل للمنع ؟ يجب فتح الآفاق أمام المواطن، وذلك عبر خلق بدائل، و توفير الوسائل و الأليات لمواكبة ما جاء به التصميم، كوضع برامج العمل، وتنظيم حوارات مع المجتمع المدني، وتعبئة الفاعلين المحليين للمساهمة في تأطير الساكنة، وخلق أنشطة موازية، من قبيل تشجيع المقاولات المختصة في أشغال الترميم و الإصلاح، تعتمد على إستعمال المواد المحلية ذات خصائص تمكنها من مقاومة التغيرات المناخية، و تستجيب للذوق وراحة النفس.