
إن قراءة خطاب الملك الذي ألقاه أمام البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية التي توافق السنة الأخيرة من الولاية التشريعية الحالية وتفكيك مضامينه يقتضي وضعه في ميزان دستور المملكة لسنة 2011 اعتبارا لما يتضمنه من توجيهات تؤطر السياسات العمومية وتعيد ضبط أولويات الدولة. فالملك بناء على الوثيقة الدستورية، بصفته ضامنًا لوحدة الدولة واستمراريتها، يُوجه الفاعلين السياسيين والمؤسسات الدستورية عبر خطابه إلى معالجة القضايا الاستراتيجية بروح من المسؤولية الجماعية والتشاركية.
كما أنه يتعين وضعه في سياقه السياسي من حيث توجيهه رسالة واضحة إلى أعضاء البرلمان بصفتهم تلك وبصفتهم الحزبية كذلك وإلى الحكومة بالعمل سويا على تحقيق التنمية في هذا الإطار، يقدم الخطاب الملكي الأخير مجموعة من الرسائل السياسية والدستورية، ويفتح النقاش حول بعض القضايا الراهنة.
كما لا يجب أن نعزل الخطاب عن سياق الحراك الشبابي الأخير المعروف إعلامياً بـ”جيل زيد” وكيف أنه يتعين على الطبقة السياسية والمؤسسات الدستوري العمل على التنزيل الفعلي للبرامج الوطنية الكبرى دون أن يتعارض ذلك مع البرامج الاجتماعية.
أولاً: رسائل توجيهية للسلطتين التشريعية والتنفيذية:
انطلاقًا من الفصل 65 من الدستور المغربي، يُفتتح البرلمان بخطاب ملكي يُعد بمثابة وثيقة مرجعية توجه عمل الحكومة والبرلمان. وقد ركّز الخطاب على عدة محاور مركزية، من بينها:
- تثمين دور البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم، مع التأكيد على استكمال المشاريع التشريعية خلال السنة الأخيرة من الولاية، وهذا يعطي إشارة قوية للبرلمان بالقيام بأدواره الرقابية والتشريعية بجدية وفعالية خاصة مع ما تم تسجيله خلال الولاية الحالية من غياب ملحوظ لأعضاء البرلمان بغرفتيه عن جلسات البرلمان وهو ما يؤثر على التشريع خاصة وأنه تمرير نصوص قانونية تمس في العمق الحقوق والحريات منها على سبيل المثال القانون التنظيمي للإضراب وقانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية وهي قوانين مرت دون أن تنال حقها من المناقشة المأمولة من السلطة التشريعية.
- دعوة إلى الفعالية والتأطير الحقيقي للمواطنين، وتفعيل الدور التواصلي لممثلي الأمة والأحزاب السياسية، وهي رسالة قوية للأحزاب السياسية على وجه الخصوص نظرا لغيابها التام عن ممارسة أدوارها القانونية في تأطير المواطنين والترافعي عن قضايا الوطن والمواطنين مع ما يتطلبه ذلك من ضرورة تجديد النخب واعتماد عنصر الكفاءة والجدية والفعالية كمعايير أساسية لمنح التزكيات للترشح للمجالس المنتخبة وطنيا وجهويا وإقليما ومحليا.
- العدالة المجالية والاجتماعية كتوجه استراتيجي دائم، لا كشعار مرحلي، وهي إشارة إلى أن التنمية لم تعد خيارًا بل أولوية وطنية، وذلك عبر توزيع التنمية بين مختلف مناطق المملكة ولاسيما المناطق الجلية والواحية بدل التركيز على الاقتصادية والصناعية الأقطاب الكبرى.
- لم يغفل خطاب الملك أمام البرلمان على التأكيد على أن التنمية لا يجب أن تقتصر فقط على الأوراش الوطنية الكبرى بل أن هذه الأخيرة لا يجب أن تتعارض مع البرامج الاجتماعية ولاسيما فيما يتعلق بالتعليم والصحة والتشغيل وهي كلها أمور لم تكن تدخل في نظرنا ضمن التنزيل الفعلي للبرامج الحكومية والتي أعطت الأولوية لمشاريع استثمارية تصب في الإعداد للتظاهرات الرياضية التي سيحتضنها المغرب مع ما خلقه ذلك من تخلي واضح من الحكومة عن أدوارها الأساسية في تنزيل برامجها التنموية في المجال الاجتماعي.
هذا التوجيه الملكي يتماشى مع المقتضيات الدستورية، خصوصاً في الفصول 1 و31 و154، التي تؤكد على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان المساواة في الولوج إلى الخدمات الأساسية، واعتماد مبادئ الحكامة الجيدة في تسيير الشأن العام دون التغاضي عن المتطلبات الأساسية للمواطن المغربي في المجال الصحي والتعليمي والتشغيل بما يضمن كرامة المواطنين وكذلك العدالة الاجتماعية.
إن خطاب الملك لا يحمل المؤسسات الدستورية وحدها المسؤولية في الاختلالات التنموية الناتجة عن التدبير السيء للشأن العام الناتج عن الفساد أو عن الجهل والأمية بل كذلك يتضمن إشارات قوية إلى أن المواطنين يتحملون المسؤولية كذلك لكونهم في النهاية هم من يصوتون في الانتخابات على ممثلهم في البرلمان الذي من خلاله تتشكل الحكومة.
ثانيًا: الأبعاد السياسية للخطاب
1تكريس الثقة بين الدولة والمواطن وذلك عبر تقوية العلاقة بين المؤسسات والمواطنين عبر تأطير سياسي فعّال، لإعادة الثقة المفقودة في العمل الحزبي والمؤسساتي، خصوصاً في ظل تصاعد خطاب العزوف، وسخط فئات واسعة من الشباب والنخب المغربية.
- التأكيد على فعالية التنمية الترابية: وتفعيل بنود الدستور فيما يتعلق باللامركزية الترابية أو الجهوية المتقدمة مع دعوى مجالس الجماعة الترابية على ممارستها الفعلية والفعالة لاختصاصاتها لأن التنمية الترابية ترتكز أساسا على ما يتم تنزيله على أرض الواقع من مشاريع تنموية وبالتالي فإن المغرب اعتمد اللامركزية الترابية التي تتأسس على لامركزية اتخاذ القرار التنموي الترابي بل أن القرارات التنموية الترابية تتخذ على مستوى المجالس المنتخبة الترابية وهنا تبرز أهمية هذه المجالس في تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية على حد سواء.
ترتكز التنمية الترابية بهذا الاعتبار على الاستثمار في المؤهلات المحلية عبر الاهتمام بالرأسمال البشري واختيار وتأهيل النخب فضلا عن استغلال مؤهلات وخصوصيات كل منطقة واعتماد الجاذبية التي تعتبر أساس التنمية الترابية.
ولتكريس دور الجاذبية في التنمية الترابية فإن الخطاب أشار إلى الأسس التي يتعين اعتمادها لتحقيق هذه التنمية ومن ذلك تطوير المراكز القروية ومعالجة الفوارق المجالية فضلا دعم المناطق الجبلية والواحات والسواحل وذلك عبر آليات محددة منها برامج التنمية الجهوية PDR وبرامج عمل الجماعات والتصميم الجهوي لإعداد التراب SRAT وهو ما يعكس تحولاً في فلسفة الدولة من التخطيط المركزي إلى نهج التنمية المندمجة والمجالية.
وقد تضمن خطاب الملك في ذات السياق رسالة قوية إلى الفاعلين العموميين مركزيين ولا مركزيين على حد سواء، عندما أدان بشكل واضح كل الممارسات التي تُهدر الجهد والموارد، ودعا إلى حكامة صارمة ونتائج ملموسة، وهذا جزء من ثقافة جديدة أساسها “الفعالية والنجاعة بدل البيروقراطية والتسويف”.
ثالثًا: الحراك الشبابي”جيل زيد” من خلال الخطاب الملكي… قراءة تحليلية
إن خطاب الملك أمام أعضاء البرلمان لم يخرج عن سياقه الدستوري والسياسي بعدما توقع العديد من المتبعين أن يتم الإعلان على إقالة الحكومة أو مجموعة من أعضائها أو حل البرلمان وذلك عبر الزخم الذي عرفه الحراك الشبابي الافتراضي المعروف بـ”جيل زيد”، غير أن الخطاب الملكي لم يأت على ذكره، ما طرح تساؤلات عديدة حول خلفيات ذلك.
لقد تجنّب الملك الإشارة في خطابه إلى الحراك الشبابي وهو أمر مقصود باعتبار السياق الدستوري والسياسي لهذا الخطاب لأنه يتعلق بافتتاح الدورة التشريعية من جهة ومن جهة ثانية فإن الخطاب تضمن إشارات واضحة تفيد استيعاب رسائل الحراك وهو ما بدا واضحا من خلال إشارة الملك إلى نقطة أساسية تتعلق بعدم التعارض بين البرامج الوطنية الكبرة وبين البرامج الاجتماعية التي اتخذها الحراك أساسا له.
ومن جهة ثالثة فإن الحراك الأخير قد ظهر في شكل غير مهيكلة اشتغلت بالأساس على مواقع التواصل الاجتماعية دون أن تعتمد تمثيلية على صعيد الواقع يمكن أن يفتح معها نقاش مما يطرح صعوبة كبيرة في التواصل والضبط أو التفاوض.
إن “جيل زيد” بهذا المعنى يبقى حركة شبابية رقمية بدون قيادة واضحة أو مطالب محددة ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب الملكي يوجَّه إلى المؤسسات المنتخبة والأحزاب، لا إلى كيانات غير مُمثلة سياسياً ولاسيما بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية.
إن الخطاب الملكي قد كرس مبدأ التعامل الاستراتيجي مع القضايا الشبابي لأن الملكية لا يمكن أن تتعامل مع القضايا من زاوية رد الفعل، بل تدمج المطالب الاجتماعية ضمن إصلاحات مؤسساتية وهيكلية. ويمكن اعتبار ما جاء في الخطاب حول العدالة الاجتماعية، وتحسين التعليم، وخلق فرص الشغل، وغيرها من المحاور، تفاعلاً صريحا وواضحا مع الجو العام الذي عبّر عنه حراك “جيل زيد”.
والملك بهذه الاعتبارات وباعتباره رمزًا للوحدة الوطنية، يتجنب الدخول في سجالات أو استقطابات آنية قد تُفهم كاصطفاف مع أو ضد حركات معينة، حفاظاً على هيبة المؤسسة وتوازنه وهي إشارة واضحة إلى أن أي حراك يروم تقديم مطالب يجب أن يظهر في شكل إطار مهيكل يمكن التواصل معه على صعيد الواقع يقدم مطالبه القانونية والمشروعة وفق الشكل المحدد قانونا في إطار تواصل سلمي وواضح.
خلاصة عامة
الخطاب الملكي يعكس رؤية استراتيجية متماسكة للدولة المغربية، تجمع بين تعزيز المؤسسات المنتخبة وتنزيل التنمية المجالية كخيار دائم فضلا عن تقوية العلاقة بين المواطن وبين الدولة
وذلك قصد الحفاظ على استقرار البلاد واستمرارية إصلاحها.
أما فيما يتعلق بـالحراك الشبابي المتمثل في”جيل زيد”، فإنه ورغم عدم ذكره فإن ذلك لا يعني تجاهله، بل هو تعبير عن نمط خاص في التفاعل مع الظواهر المجتمعية، يفضل الاستيعاب بدل المواجهة، والإصلاح الهادئ بدل ردود الأفعال العاطفية.
الأستاذ رشيد أغزاف
باحث في القانون العام
We Love Cricket