كتاب وآراء

حماية الفساد ومصداقية المؤسسات سعيد الكحل

يتأكد يوما بعد يوم وفضيحة بعد أخرى أن الحكومة طبّعت مع الفساد حتى صار جزءا من بنيتها تحميه أطراف من داخلها ومن خارجها. وعلى الرغم من توفر الآليات الدستورية والتشريعية والمؤسساتية (الدستور الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، الهيئة المركزية للحماية من الرشوة، المجلس الأعلى للحسابات، اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد) فضلا عن الهيآت غير الحكومية التي يبدو أن الحكومة لا تتعامل مع تقاريرها بجدية، إلا أن المغرب ما يزال يحتل مراكز متأخرة في مؤشر مدركات الفساد، بل تراجع ليحتل الرتبة الـ80 من أصل 180 دولة، بدل الرتبة الـ73 التي احتلها سنة 2018، حسب تقرير منظمة ترانسبرنسي الدولية لسنة 2019.

فحتى حين اعتمدت الحكومة المغربية الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، وأعطت انطلاقتها الرسمية في 2016، لم تكن جادة في تطبيقها بدليل تقسيمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة “انطلاقة” التي انتهت في سنة 2018، ثم المرحلة الثانية “التوسيع” (2019 إلى 2021)، ثم مرحلة “النضج” التي ستبدأ في 2022 وتنتهي في 2025.

وما يثير الشكوك لدى عموم المواطنين في جدية الحكومة وصدقية برامجها وخططها لمحاربة الفساد أن اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، التي تم إحداثها بموجب مرسوم صادر في نونبر 2017 ويرأسها رئيس الحكومة وتضم في عضويتها ممثلين عن بعض السلطات الحكومية والهيئات ذات الصلة وممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني، ورُصدت لها ميزانية مهمة من المال العام، آثارها على الواقع تكاد تكون منعدمة فيما يخص ملفات الفساد الكبرى التي تنهك الدولة وتمس مباشرة بحقوق المواطنين في العيش الكريم والسلامة الصحية.

أما الاقتصار على مطاردة صغار المرتشين من دركيين وأمنيين وموظفين عبر الخط الأخضر أو استقبال شكايات المواطنين عبر البوابة الوطنية الموحدة للشكايات التي أطلقت الحكومة، فمسألة لا تستدعي تشكيل كل هذه الهيآت ورصد الميزانيات الضخمة للتسيير.

فباستثناء الإجراءات العقابية التي أمر جلالة الملك باتخاذها في حق عدد من الوزراء والمسؤولين الإداريين الذين شملتهم تقارير المجلس الأعلى للحسابات على خلفية الاختلالات التي سجلت في برنامج “الحسيمة منارة المتوسط”، تكاد تخلو محاكم المملكة من ملفات كبار المفسدين وناهبي المال العام.

وضعية تراخي الحكومة وتساهلها مع لوبيات الفساد وناهبي المال العام، بل تواطؤها معهم منذ أعلن رئيس الحكومة السابق بنكيران عن قرار “عفا الله عما سلف” ضد على الدستور الذي يلزم الحكومة بربط المسؤولية بالمحاسبة، أثارت سخط عموم الشعب المغربي الذي لم تعد تخفى عليه ملفات الفساد وضلوع مسؤولين كبار فيها، وآخرها صفقة تحاليل كورونا التي تفجرت منذ 12 يونيو 2020 عبر المواقع الإلكترونية والصحافة الوطنية دون أن يتحرك رئيس الحكومة، المسؤول المباشر عن مالية الدولة ورئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، للتحقيق في الفضيحة وإحالة المتورطين فيها على القضاء.

فتفاصيل هذه الجريمة المالية باتت معروفة لدى الرأي العام، خاصة تلك المتعلقة بوجود لوبي الفساد المتحكم في كل صفقات وزارة الصحة الذي تغوّل حتى بات الوزير ورئيس الحكومة عاجزين عن تفعيل القانون ضده. والدليل هو استمرار الكاتب العام لوزارة الصحة في التمسك بمنصبه رغم انتهاء ولايته، وإشرافه على إبرام الصفقات خارج القانون وبأغلى الأسعار كما هو موضوع الفضيحة التي فجرتها صفقة التحليلات التي أبرمتها الوزارة مع شركة أمريكية هي “ABBOTT” عبر شركة مغربية هي “MASTERLAB”؛ إذ كشفت مواقع إلكترونية عدة أن التحليلة الواحدة لا يتجاوز سعرها 55 درهما، بينما باعتها الشركة الوسيط للوزارة بـ100 درهم، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال:

ما الذي منع الوزارة من إبرام الصفقة مباشرة مع الشركة المصنعة؟ لماذا لم تتحقق الوزارة عبر لجنها المختصة من تاريخ صلاحية التحليلات الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة أشهر عند اقتنائها؟ من الذي يحمي الكاتب العام ليستمر في المنصب ويمارس المهام دون سند قانوني؟ لماذا لا تتعامل اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد مع الأخبار والتقارير الصحافية في موضوع الفساد المرتبط بصفقة التحاليل بالجدية التي تتعامل بها مع شكايات المواطنين وتبليغاتهم ضد الرشوة؟ لماذا لا يسارع المجلس الأعلى للحسابات إلى افتحاص صفقات الوزارات بنفس الوتيرة والدقة التي يفتحص بها صفقات المجالس الترابية؟ أين النيابة العامة من هذه الجرائم المالية؟

إن تواطؤ الحكومة وعجزها عن مواجهة لوبيات الفساد يمس بسمعة المؤسسات وبمصداقيتها، كما يهز ثقة المواطنين فيها. واقع بقدر ما يثير سخط المواطنين، يثير انتقاد وزارة الخارجية الأمريكية لتساهل الحكومة المغربية مع الممارسات المرتبطة بالفساد، حيث جاء في تقريرها لسنة 2019: “رغم كون القانون ينص على عقوبات جنائية ضد الفساد من قبل المسؤولين، إلا أن الحكومة بشكل عام لم تنفذ هذا القانون بشكل فعال”، بل تحدث التقرير عن “فساد حكومي في الأجهزة التنفيذية والقضائية والتشريعية”.

إن الحكومة مسؤولة دستوريا وأخلاقيا على محاربة الفساد بكل أشكاله، والإخلال بهذه المسؤولية هو إخلال بالواجب الوطني وتعطيل للدستور واستخفاف بالقانون وبمؤسسات الدولة، من هنا فـ”عدم الـقيام بالواجـب، هو نوع من أنـواع الفساد”، كما خاء في خطاب العرش لسنة 2016، حين شدد جلالة الملك على أن “محاربة الفساد هي قضية الـدولة والمجتمع، الدولة بـمؤسساتها، من خلال تفعـيل الآليات القانونية لمحاربـة هـذه الـظاهـرة الخطيرة، وتـجريـم كل مظاهرها للضرب بـقـوة على أيـدي الـمفـسدين”.

We Love Cricket

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى