حلت اليوم ذكرى مولد نبي الإسلام، وهي ذكرى جليلةٌ بالنسبة إلى المسلمين. لذلك يحتفلون بها بطرق مختلفة، تختلف من منطقة إلى أخرى. ولن أتحدث عن جواز الاحتفال، أو عدمه، وهل هو حلال، أم بدعةٌ وضلالة، فذلك موضوع آخر.
في تنغير، كلما حلَّت هذه الذكرى، إلا واحتفل الأهالي بأشكال مختلفة، منها ما يسمى “لْحْطْرْتْ”، و”أكْدُودْ” (ⴰⴳⴷⵓⴷ)، والذي يعني تجمعاً من الناس، حول غرضٍ احتفالي معيَّنٍ، مثل “أكدودْ نْ لْحارْتْ”، في ذكرى ميلاد النبي، حيثُ يُزارُ ولي صالحٌ في ذلك القصر (الحي)، وتُقامُ طقوسٌ خاصةُ، و”أكدُودْ نْ لْمْغَنِّي” الذي تحتفل فيه الجموع بزواج جماعي.
ومن الأشكال الاحتفالية، أن أهالي كلِّ قصرٍ (حيٍّ) في تنغير، يختارون طفلةً، ويقومون بتزيينها بكل أشكال الزينة المتاحة، من حناء، و”مسواك”، وكُحْلٍ (Tazult)، وغيرها، ويُلبِسونَها ما يزيدها جمالاً من لباسٍ، من قبيل “رْدِي” (Rdi)، و”تَاسْبْنت(Tasbniyt)، و”تَسَّاسْتْ” (Tassast)، ولْقِدُونْ” (Lqidun)، و”تِشُوغَاشْ” (Tichuɣach)، و”لُّوبَانْ” (Luban)، و”أَبُوقْسْ نْ لْحْريرْ” (Abuqs la7rir)، وغيرها كثير من هذه الألوان من الجمال الذي أبدعه الإنسان التودغي، على ضفاف واد تودغى، منتجاً موروثاً ثقافياً مادياً خصباً.
وتسمَّى الطفلة اليافعةُ المختارةُ ”تاﮔْـلِّيدْ” (Tagllid)، أي الملكةُ. ترتدي كلَّ ذلك، وتتزين به، وتحمل في يدها غصناً، بخمسة رؤوس، ترمز للطبيعة وخصبِها، والقيم الأمازيغية وامتدادها، كما يرى الفنان محمد الزياني. وتحملُ الفتاة على ظهرها -في القديم- أحدث مولودٍ، في سنته الأولى، أو يقلُّ، أو تحمل قالباً من السكرَ مكان المولود، في أواخر هذه العادة التي انقرضت اليوم، بشكلها القديم، وصارت طقوسها خاصة بالنساء، يحتفين بمفردهن، بعدما كانت الجماعة كلها تحتفل معهن.
ويُزيَّن وجه الفتاة بما يسمى “لْقُوسْ”، وهو رسم ماكياجي، بمادة تصنع بخلط الزعفران والكحل، والقرنفل، والعكر الفاسي المعروف حينها، كما تضع أمها بعضا من تلك المادة على وجهها أيضاً، ويوضع قليل منه على المولود.
وقد بحثْتُ في الروايات الشفوية، وتوصلتُ إلى أن أهالي كل قصرٍ، أي حيٍّ بالتسميات الحديثة، يخرجون في موكبٍ جماعي، ومعهم “تاﮔليدْ”، حاملةً الطفلَ على ظهرها، أو قالب السكر، وهم يرددون أهازيج جماعيةً من “أحيدوس”، متوجهين تجاه قبةٍ يرقدُ فيها جسدُ “وليٍّ صالحٍ”، لتبدأ طقوسُ احتفالٍ أخرى.
ولما يعود الموكب إلى منازلهم يكون أهل الملكة الصغيرة قد أعدوا أكلة “تِيسْمِّيتْ” (Tismmit)، فيأكل منها الجميع، في فرحٍ وسرورٍ، واستمتاع جماعي مهيبٍ.
لماذا يفعلون ذلك؟ ما رمزية هذا الاحتفال؟
سؤال صعبٌ جداً، لكن هناك قراءتيْن له؛ الأولى يرى أصحابها أن الاحتفاء ممتد إلى مرحلة دخول العرب إلى شمال افريقيا، حيث واجهت جيوشَهم الملكة الأمازيغية “تيهيَّا”، فصار احتفال “تاﮔليدْ”، إذن، احتفاءً بتلك الملكة.
لكن هذه القراءةَ تبدو غير متناسقة، وتترك الكثير من الفراغات غير المفهومة، والتي يصعب ملأُها إلا بالاجتهاد، فكيف يمكن لسكان تودغى أن يحتفوا بهذه الملكة بهذا الطقس، دون غيرهم من أمازيغ الجنوب الشرقي؟ أهناك علاقة خاصة تربطهم بتلك الملكة القائدة؟ وهل كان الناس يسكنون في ضفاف نهر تودغى منذ تلك الفترة، أم جلبوا تلك العادة من حيث أتوْا ليستوطنوا الواحة؟
أما القراءة الثانية، فترى في هذا الطقس مركزية الذكر، وسلطويته؛ فهو، حسب هذه القراءة، احتفالية بالذكَّر، أما “تاﮔليدْ” فهي مطيتُه، يعلو ظهرها، وتتحمل ثِقْلَه. ويتم هذه الاحتفال بذكرى مولد النبي، وهو رجل، وليس امرأة.
إلا أن نعتَها بالملكة بمفرده يجعل هذه القراءة غير مستقيمة، من حيث الدلالة والرمويةُ، فتاﮔليدْ تُسخَّرُ لها كل الإمكانيات الجمالية، وتكون مركز هذه الاحتفالية، كما أن من يفهم طبيعة المجتمع الواحي، ويتتبع تاريخها، سيتأكد أن قيم الذكورية دخيلةٌ عليها. لكن الرواية الشفوية تؤكد أنها احتفالية بآخر مولود ذكر في القصر، وتؤكده كذلك تعابير التهنئة التي تفيد أنها خاصة به، حيث تقول النساء مهنئات الأم:
وهو استفهام يفيد دلالة الدعاء له بالنشأة على البركة واليمن.
غير أن كشف تاريخ طقوس “تاﮔليدْ”، وسياق ظهورها، قادرٌ على إنارةِ جوانب هذه العادات العريقةِ. ويجب علينا إحياء هذه الطقوس، لما تشكله من إرث يمتزج فيه المادي باللامادي، وما يحققه من تماسك اجتماعي، وتواصل حضاري، وما يخلقه من فرح وسرور، وما يبعثه في النفس من طاقة إيجابية، وينبغي تثمينُه، واستثماره مورداً من موارد السياحة الثقافية .
We Love Cricket